تَمَيُّزُ خَطّ القُرءَانِ: فِى تَدَبُّر خَطّ صَاحِب وَ صَـٰحِب

يَتَميَّزُ القُرءَان الكَريمُ بكُلِّ تَفاصيلِه الدَّقيقةِ التي تَجعلُه كِتاباً فَريدَاً من نوعِه. ومِن بَينِ هذه التَّفاصيلِ، يَتَجَلَّى تَميُّزُ خَطِّ القُرءَانِ الكَريمِ في كُلِّ كَلِمةٍ وحَرفٍ وتَشكيلٍ، حيثُ لَمْ يَكُنْ شَيءٌ في هذا الكِتابِ العَظيمِ عَبَثَاً. إنَّ تَغيُّرَ خَطِّ الكَلِمَةِ بَينَ السِّياقاتِ المُختَلِفَةِ يَحمِلُ دَلالاتٍ عَميقَةٍ ويُسهِمُ في إِيصالِ مَعانٍ دَقيقةٍ للقارئِ.
فَنجِدُ مَثلاً عِندَمَا خَطَّ القُرءَانُ كَلِمَةَ “صاحب”، جَاءت مَرَّاتً بشَكلِهَا المأَلُوفِ بِالأَلفِ فَاصِلاً الكَلِمَة عَن بَعضَهَا هَكَذَا “صَاحِب” كَمَا فِى ءَايَةِ سُورَةِ الكَهفِ
قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍۢ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍۢ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلًۭ

وَ مَرَّاتٌ أُخَر بأَلِفٍ مَرفُوعَةٍ فَتُبقِى الكَلِمَةُ مُتَلاحِمةُ الحُرُوفِ هَكَذَا “صَـٰحِب” كَمَا جَاءَت فِى نَفسُ السُورَةِ وَ نَفسُ السِياقِ
وَكَانَ لَهُۥ ثَمَرٌۭ فَقَالَ لِصَـٰحِبِهِۦ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَنَا۠ أَكْثَرُ مِنكَ مَالًۭا وَأَعَزُّ نَفَرًۭا

وَ هَذَا خَطٌّ فَرَيدٌ لَا نَجِدَهُ إِلّاَ فِى كِتَـٰبِ اللهِ وَ لَا نَجِدُ لَهُ مَثَلٌ بَيَن مَا أيدِينَا مِن كُتُبٍ.

وَ هَذَا مِمَا يُثِيرُ الفُضُولَ فِى النَفسِ وَ يَدفَعُنَا لِتَدَبُّرِ الءايَـٰتِ لَعَلَّنَا نَكتَشفُ الغَايَةَ مِن وَرَاءِ تَغَيِيِرِ خَطِّ الكَلِمَةِ فِى ءايَـٰتٍ عَن ءايَـٰتٍ. فَلنَبدَأَ إِذًا رِحلَتُنَا فِى رِحَابِ كِتَـٰبِ اللهِ.

نَبدَأُ دِرَاسَةَ مَوضُوعُنَا بِتَرتِيلِ الءايَـٰتِ التِى جَاءَت بِهَا كَلِمَة صَاحِب وَ مُشتَقَّتها كالتَالِى:

أَولًا البَحثُ عَن كُلِّ الءايَـٰتِ التِى وَرَدَت بِهَا كَلِمَة صَاحِب وَ مُشتَقَّتها بِإستِخدَامِ مُحَرِك البَحثِ فِى القُرءَانِ بالجِذرِ
https://rabanyoon.com/root/صحب

ثَانِيًا تَرتِيلُ الءايَـٰتِ مَعًا

وَ مِمَا رَتِّلنَاهُ مِن الءايَـٰتِ يَتَضَحُ لَنَا جَلِيًا الغَايَةُ مِن وَرَاءِ تَغَيِيُر خَطُّ الكَلِمَةِ بَينَ الءايَـٰتِ، فَتأَمَّل مَعِى:

فَالصُحبَةُ هِى مُلَازَمَة إَثنَينِ أَو أَكثَر سَوِيًا لفَتَرةٍ مِنَ الزَمَن، وَ لَكِن القُرءَان ءَاتَى بِبُعدٍ جَدِيدٍ لِلكَلِمَةِ وَ هُوَ القُربُ و البُعدُ المَعنَوى بَينَ أَطرَافِ الصُحبَةِ، فإِذَا مَا قَرُبَت الصُحبَة بَينَهمَا رُفِعَ حَرفَ الأَلِفِ فَزَادَ تَلَاحُم حُرُوفِ الكَلَمَةِ فيَنقِل لَنَا القُربُ المَعنَوى بَينَ الأَصحَـٰبِ فِى هَذِه اللَّحظَة أَو الفَتَرَة. أمَّا إِذَا بَعدَت المسَافَة المَعنَويةِ بَينَهُم لإِختِلَافِ الإيمَان وَ السلُوكِ جَاءَت الألِفُ فَاصِلةٍ بَينَ حِرُوفِ الكَلِمَةِ فتَنقِلُ لَنَا البُعدُ الحَادِثُ فِى الوَاقِعِ بخَطِّ الكَلِمَةِ!

وَ لَنَا مِثَالٌ وَاضِح فِى الحِوارِ الذى دَارَ بَينَ صَاحِب الجَنتَينِ وَ صَاحِبِهِ المُؤمِنِ فِى سُورَةِ الكَهۡف

وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلًۭا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَٰبٍۢ وَحَفَفْنَٰهُمَا بِنَخْلٍۢ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًۭا ﴿٣٢﴾ كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ ءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْـًۭٔا ۚ وَفَجَّرْنَا خِلَٰلَهُمَا نَهَرًۭا ﴿٣٣﴾ وَكَانَ لَهُۥ ثَمَرٌۭ فَقَالَ لِصَٰحِبِهِۦ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَنَا۠ أَكْثَرُ مِنكَ مَالًۭا وَأَعَزُّ نَفَرًۭا ﴿٣٤﴾ وَدَخَلَ جَنَّتَهُۥ وَهُوَ ظَالِمٌۭ لِّنَفْسِهِۦ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِۦٓ أَبَدًۭا ﴿٣٥﴾ وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةًۭ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّى لَأَجِدَنَّ خَيْرًۭا مِّنْهَا مُنقَلَبًۭا ﴿٣٦﴾ قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍۢ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍۢ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلًۭا ﴿٣٧﴾ لَّٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّى وَلَآ أُشْرِكُ بِرَبِّىٓ أَحَدًۭا ﴿٣٨﴾ وَلَوْلَآ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِ ۚ إِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالًۭا وَوَلَدًۭا ﴿٣٩﴾ فَعَسَىٰ رَبِّىٓ أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًۭا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًۭا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًۭا زَلَقًا ﴿٤٠﴾ أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْرًۭا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُۥ طَلَبًۭا ﴿٤١﴾ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَٰلَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّىٓ أَحَدًۭا ﴿٤٢﴾ وَلَمْ تَكُن لَّهُۥ فِئَةٌۭ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا ﴿٤٣﴾ هُنَالِكَ ٱلْوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلْحَقِّ ۚ هُوَ خَيْرٌۭ ثَوَابًۭا وَخَيْرٌ عُقْبًۭا ﴿٤٤﴾ سُورَةُ الكَهفِ

نَجِدهَا جَاءَت “لِصَٰحِبِهِ” فِى أَولِ الحِوَارِ عِندَمَا كَانَت الصُحبَة قَريبَة بَينَ الرَجُليَنِ، لَكن بمُجَرَدِ تَبيِّن كُفر صَاحِبِهِ لَهُ، وَقَعَ البُعدُ المَعنَوى بَينَ المُؤمِنِ وَ صَاحِبِهِ و لذَٰلِك تَغَيَر الخَطِّ إِلَى الألِف الفِاصَلةِ “صَاحِبُهُ”. وَ نَجدُ مِثلَ هَذَا التَعبِير بالخَطِّ مُتكَرِرًا فِى ءايَـٰتٍ مُتعَددِةٍ

فِى الصُحبَة القَريِبَة بَينَ النَبِيِ وَ صَـٰحِبِهِ فِى السَفَرِ عِندَمَا أَخَرَجُهُمَا الذِينَ كَفَرُوا
إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ثَانِىَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٍۢ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ٱلسُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِىَ ٱلْعُلْيَا ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿٤٠﴾ سُورَةُ التَّوۡبَةِ

وَ نَجِدهَا جَاءَت لتُصوِر الفُرٍِقَة المَعنَوِية بَينَ الذِينَ كَفَرُوا وَ الرَسُول وَ إِن كَانَت بَينَهُم صُحبَة المَكَانِ وَ الزَمَانِ وَ مَعِرفَتِهِم لَهُ وَ تَعَامُلهم المُبَاشِر مَعهُ
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ﴿٢﴾ سُورَةُ النَّجۡمِ
وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍۢ ﴿٢٢﴾ سُورَةُ التَّكۡوِيرِ

وَ نَجِدهَا جَمَعَت الأَصحَـٰبَ بإِجتمَاعِهم فِى نَفسِ المَكَانِ وَ الزَمَانِ وَ السِلوكِ وَ التَوَجهِ فلا إِختِلَاف فِكرىِ أَو إِيمَانى بَينَهُم
كإِجتِمَاع أَصْحَٰب الأَيكَة عَلَىٰ كُفرِهم بالرُسِلِ
وَإِن كَانَ أَصْحَٰبُ ٱلْأَيْكَةِ لَظَٰلِمِينَ ﴿٧٨﴾ سُورَةُ الحِجۡرِ
وَ أَصْحَٰبُ ٱلرَّسِّ
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍۢ وَأَصْحَٰبُ ٱلرَّسِّ وَثَمُودُ ﴿١٢﴾ سُورَةُ قٓ
و أَصْحَٰبُ ٱلْحِجْرِ
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَٰبُ ٱلْحِجْرِ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴿٨٠﴾ سُورَةُ الحِجۡرِ

وَ أَصحَـٰبُ الجَنَّةِ بِإشترَاكِهم فِى العَمَل الصَالِحِ وَ وُجُودِهم مَعًا فِى الجَنَّة
وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُو۟لَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ ﴿٨٢﴾ سُورَةُ البَقَرَةِ

وَ أَصحَـٰبُ النَّارِ بِإشترَاكِهم فِى العَمَل السَيِئ وَ وُجُودِهم مَعًا فِى النَّارِ
وَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَكَذَّبُوا۟ بِـَٔايَٰتِنَآ أُو۟لَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ ﴿٣٩﴾ سُورَةُ البَقَرَةِ

يُبرِزُ تَغييرُ خَطِّ الكَلِمَةِ بَينَ السِّياقاتِ المُختَلِفَةِ في القُرءَان الكَريمِ عُمقَ المَعانِي التي يَحمِلُها، ويُؤكِّدُ البُعدَ المَعنَويَّ بَينَ الأَصحابِ في السِّياقِ المَعنيِّ. هذا الأُسلوبُ يُحفِّزُ القارئَ على التَّفكُّرِ والتَّدبُّرِ في مَغزَى التَّغييرِ. حيثُ يُوضِحُ كَيفَ أَنَّ كُلَّ حَرفٍ وكَلِمَةٍ في القُرءَان وُضِعَت بِعنايةٍ ودِقَّةٍ لِتَوصيلِ مَعانٍ مُحدَّدةٍ بطرقٍ مُتعدِّدةٍ. هَذا يَجعلُ القُرءَان الكَريمَ كِتابَاً خَالِداً و مٍتَميَّزًا في كُلِّ جوانبِهِ، ويُعزِّزُ إِيمانَ القارئِ بأنَّ القُرءَان هو كَلامُ اللهِ المُنَزَّلُ.

فسُبحَانَ ربَّ العَـٰلمِين الذِى أَنزَلَ الكِتَـٰبَ بُرهَان مِن عِندِه وَ هُدى وَ بُشرَى للمُتقِين. فبأى كِتَـٰبٍ أخَرَ نَجدُ مِثلَ هَذَا الإحكَام وَ التمَّكُن فِى الخَطِّ؟

وَ يَبقَى التَحدِى لكُلِ مُرتَابٍ مِنَ الكِتَـٰبِ بأَن يأتُوا بِسُورَةٍ مِن مثلِهِ
وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍۢ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا۟ بِسُورَةٍۢ مِّن مِّثْلِهِۦ وَٱدْعُوا۟ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ ﴿٢٣﴾ سُورَةُ البَقَرَةِ

وَ لَا يَأتُونَ بمِثلِهِ وَ لَو كَانَ بَعضُهُم لِبَعضٍ ظَهِيرًا
قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلْإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأْتُوا۟ بِمِثْلِ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِۦ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍۢ ظَهِيرًۭا ﴿٨٨﴾ سُورَةُ الإِسۡرَاءِ